عندما لا يستطيع المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود استجواب المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان حول توقيعه على ارتكاب مخالفات فظيعة لقوانين البناء أثناء الانتخابات النيابية... وعندما لا يتمكن القاضي حمود، ومعه اللواء عثمان، من توقيف الضابط و. م. الذي تشتبه قيادته بتورّطه في أعمال مخالفة للقانون، لأنه تحت حماية «مرجعيته الطائفية»، وليد جنبلاط... يصبح من غير المنطقي محاولة إقناع أحد بأن هذه الجهات تقوم بواجبها عندما تقود عملية عسكرية كبيرة لتوقيف سياسي بارز بشبهة شتم «الذات الحريرية».
الأمر، ببساطة، لا علاقة له بهيبة الدولة المنتهكة من قبل القائمين عليها ليل نهار، ولا بمحاسبة سياسي لأن «لسانه طويل»!
بعض الهدوء، ومراجعة تطورات الأسبوع الماضي، يُظهران أننا أمام لعبة القراءات الخاطئة من جديد، وأننا أمام واحدة جديدة من مغامرات وليد جنبلاط المتكررة. صار الرجل يهوى خطايا 5 أيار. وفي كل مرة، يجد حيلته في الحكومة ورئيسها. وهو أسلوب لن يتوقف عن تكراره، طالما أنه يتصرف، كبقية الزعماء الطائفيين، بأنه فوق المساءلة والحساب.
في لعبة الخفّة التي تخص الحريري وفريقه الأمني والسياسي، بدا أن حاجة هؤلاء الى «إنجاز» ما أشبه بمن عاد غاضباً من إهانات رب عمله، فقرر «فش خلقه» بأولاده. فلا هو ارتاح لأنه عائد الى العمل نفسه في اليوم التالي، ولا أولاده شعروا بهيبة يعرفون أنها بدل من ضائع. أما الحصيلة، فهي بهدلة تجرف في طريقها رصيداً من الهدوء والحكمة. وضحيتها الإضافية، هذه المرة، شعبة المعلومات في قوى الأمن، التي بدت، أول من أمس، أشبه بميليشيا تعمل وفق أجندة سياسية وحزبية، وطريقة عملها تخيف الناس، ويقوم عناصرها بعملية أشبه بغزوة مشبوهة، فيبادر الأهالي الى رفع الصوت ثم مقاومتها. مرة جديدة، ستكون لهذا الخطأ الكبير جداً انعكاساته السلبية على أفضل وحدات قوى الأمن الداخلي. يكفي أن قائد القوة، العقيد خالد عليوان، هاله عند وصوله الى الجاهلية مشهد الشباب المستعدين لمقاومتهم بالرصاص، فكانت الخلاصة عنده أنه آتٍ للمشاركة في مجزرة يخسر فيها بشراً وقوة أكثر مما يحقق هدفاً سياسياً أو أمنياً أو قضائياً. يكفي أن يشكر الحريري وعثمان وضباط قوى الأمن الداخلي من تصرف بحكمة، ومنع مذبحة كانت ستجر البلاد الى ما هو أكبر بكثير من 7 آذار، وعندها لن تنفع العباءة الجنبلاطية في تغطية الدماء.
لكن اللعبة الأكثر خطورة هي تلك التي فكّر فيها جنبلاط. الرجل الحائر في أموره منذ وقت طويل، بدل أن يرتاح قليلا، ويعيد النظر في أموره وأحوال بيته وأهله، ويتفكر في مآلاته السياسية، قرر أن يسكن داخل توتره الكبير، وأن يواصل ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء. فلا هو وجد حلاً يعالج فيه أزمة عجز نجله تيمور (وعدم رغبته) في إدارة البيت السياسي. ولا هو استفاد من تطور الأمور في سوريا لإعادة وصل ما انقطع مع المجموعات الدرزية اللبنانية والسورية التي حرّض على قتلها خلال السنوات الماضية، ولا هو قرأ نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث كانت الصدمة الكبيرة التي حاول أن يخفيها بمعركة تحصيل المقاعد الوزارية الدرزية الثلاثة.
في الانتخابات الأخيرة، سجلت لوائح الشطب وجود 210496 ناخباً من الطائفة الدرزية، واقترع منهم 106096 فقط. وأظهرت عمليات الفرز أن 103376 مقترعاً أعطوا صوتهم التفضيلي لمرشحين بعينهم، اكتفى 2720 منهم بالتصويت خارج الصوت التفضيلي، وذهبت أصواتهم إما الى لوائح أو صنفت في خانة الملغاة.
حصل معارضو المختارة على 42 في المئة من أصوات الطائفة... وبدل الإقرار بالنتيجة قرر «الزعيم» تقليد «الدب الداشر» في معاقبة خصومه
أما في نتائج التصويت السياسي، فقد حصل المرشحون الدروز على لوائح الحزب التقدمي الاشتراكي، في كل لبنان، على 61294 صوتاً تفضيلياً، وحصدوا بموجب قانون الانتخاب ستة مقاعد في الشوف (2) وعاليه (1) والبقاع الغربي (1) والمتن الجنوبي (1) وبيروت (1)، بينما حصل المرشحون على اللوائح المنافسة لجنبلاط على 42580 صوتاً تفضيلياً حصدوا بموجب قانون الانتخاب على مقعدين فقط.
ربما لم يقرأ كثيرون نتائج التصويت. أو هم تذكروا أن إدارة مختلفة للعملية الانتخابية في الشوف، مثلاً، كانت ستتيح فوز المرشح وئام وهاب على شيخ المرشحين الجنبلاطيين مروان حمادة. لكن جنبلاط، قرأ، كما بقية العارفين في أمور البلاد، أن خصوم جنبلاط، الذين كانوا مبعثرين لأسباب مختلفة، حصلوا على 41.2 في المئة من الأصوات التفضيلية مقابل 59.8 في المئة لجماعة جنبلاط. وهذا يعني، ببساطة شديدة، أن زمن سيطرة جنبلاط على الغالبية الساحقة من الصوت الدرزي انتهى الى غير رجعة، وأن تصويباً لقانون الانتخاب سيمنحه 5 مقاعد نيابية مقابل ثلاثة لخصومه.
لم يكتف جنبلاط برفض نتيجة الانتخابات، تماماً كما يفعل الرئيس سعد الحريري، بل رفض فكرة التعامل مع الأمر الواقع الجديد. وعندما خاض معركة الحصول على المقاعد الوزارية الثلاثة، كان يهدف الى محو نتائج الانتخابات. وهو يراهن، كما في كل مرة، على أن خدمات الحكومة وبعض المعارك الطائفية والعصبيات المذهبية ستعيد إليه ما خسره في الانتخابات. وهو عندما يفعل ذلك، يكون مصراً على تجاهل الأسباب العميقة وراء خسارته. وهي أسباب لا تتعلق فقط بتموضعه السياسي الخاطئ محلياً وخارجياً، بل بكون قيادته لهذه الفئة من اللبنانيين، والنطق باسمها، خلال العقود الثلاثة الماضية التالية لتوقف الحرب، لم تأت لأهل عشيرته بما يجعلهم في مصاف بقية اللبنانيين. وهو، هنا، صار يشعر بأن كل صوت اعتراضي في قلب دائرته الجغرافية أو الطائفية إنما يشكل تهديداً وجودياً له. ولذلك، ظل يفكر بتوتر أوصله الى فكرته الجهنمية، بدفع الحريري وتحريضه على حماقة الجاهلية التي انتهت بنصف جريمة. لكنها نبّهت من هم في سبات الى أن جنبلاط قرّر أن يتخذ من محمد بن سلمان نموذجاً يحتذى به في التعامل مع خصومه ومعارضيه...
صحيح أن طريقة وئام وهاب في التعليق على القضايا العامة تجذب الاعتراضات كما تجذب المؤيدين، وصحيح أنه «يشطح» بعيداً في توصيف خصومه، لكنه لم يقدم على أعمال هوجاء تعكس فكراً إلغائياً دموياً، بل دلّ تصرفه خلال الساعات الـ 36 الماضية على نضج من يحتوي أعلى درجات التوتر، ويذهب نحو منع الاستجابة لفتنة، كانت ستنحصر في بيت أنهكته الزعامات التقليدية الغارقة في تحالفات محلية وإقليمية ودولية، لا تنتج إلا الويلات على أهلها...
هل يعرف الجنبلاطيون أن زعيمهم، وأنشط نوابهم، يعملون منذ شهرين، ومن دون توقف، فقط، لأجل إخراج المقرصن خليل الصحناوي من السجن، استجابة فقط لنداء ملهم القومية اللبنانية نبيل صحناوي ونجله أنطون!
لربما، آن الأوان، أن يستحي أحدهم، وأن يقرّ، لمرة واحدة، بأن لكل حكاية نهاية. لكن تحويلها الى احتفال ربيعي أو إلى مأساة رهن بمن يقترب من عمر التقاعد!